•  وجوه مسؤومة أكثر منها مألوفة، ورثوا احتكار المهنة عن زعماء العرب المتصلبين في أماكنهم منذ عقود
  • نظم قسم اللغة العربية والاعلام في الجامعة العربية الامريكية ورشة عمل بعنوان فن الكاركاتير باستضافة الفنان الكاركاتيري محمد سباعنة
  •  كوني له نورًا يكون لك مهندًا
الأتراك قدموا نموذجا رفيع المستوى من العلاقات المثالية بين الرجل والأنثى ( مشهد من المسلسل التركي نور)

الثلاثاء، 19 يونيو 2012

بيسان .. بالسلاح تُعيد البحرَ والأمواج

مُحمد خيري


وجدتُها جالسة بخشوع تزيلُ بعضَ حبيبات الغبار العالقة على صورةِ خالها الأسير، تعتني بالصورة وكأني بخالها جالس إلى جوارها تحاكيه ويحاكيها، تجذب يديه تربتُ عليهما، تحاولُ بينَ الفينة والأخرى أن تمسح ذلك الجرحَ الذي خلّدتهُ قيودُ الاحتلال.


جلستُ هناك على المقعدِ المقابلِ لخشوعها وقتًا من الزمن بهدوء وسكون ارقبها من بعيد، وأنا الذي اعرفُ حكايةَ تعلقها بخالها الذي تربت على يديه مذ خًلقت قبل 4 سنوات.

باغتُها فجأة بصوت منخفض طفولي يحاكي طفولتها، من هذا؟ فأجابت على استحياء : هو خالي . قلت: ماذا تفعلين؟ فأجابت من بعد تردد : امسحُ الصورة لكي يراها جميلة عندما يعود. وأين هو ومن أين سيعود؟ قلتُ أنا في سؤال استنكاري. فأجابت : أخذهُ اليهود.



بيسان هو اسمها  جنين هي مدينتها، تبدو طفلة يافعة، وجدت نفسها مضطرة لان تفوقَ أبناءَ جيلها جيلاً وعمرًاً، ليس حبًا وشغفًا بالنمو وليس طمعًا بالحياة ومتاعبِ الأجيال الأكبر سنًا، إنما حبًا لخالها الذي أسرهُ الاحتلال بغتة، وكان قد ألفَ معها حكايات وروايات عاشاها معًا وصوّرا تفاصيلها صورة بصورة، فأضحت قضيةُ الأسرى وحريتهم هي قضيةُ الطفلة وأحلام طفولتها، ففضلت الخوضَ في تفاصيلِ السياسة والتاريخ على مشاهدةِ التلفاز وبرامجِ الأطفال والعبثِ في الحواري مع أبناءِ الجيل الواحد.



كنتُ قد عايشتُ المجتمعَ الفلسطيني في الضفة الغربية لأعوامٍ ثلاثة، أخالطُ الناسَ في المقاهي والحواري والمنازل احلُ فيها عليهم ضيفًا مُكرمًا، فلم يصعب عليَ اكتشافُ نكبة يعيشها المجتمع جراءَ سياسة ممنهجة تهدفُ إلى تحطيمِ ما تبقى من وطنية وعداء لمن احتلَ الأرضَ وشردَ الشعبَ وهدمَ مستقبلَ الأجيال الواعد، نكبة يتشارك فيها الاحتلال مع أبناء الشعب ممن نصبوا أنفسهم قادة لهُ يرفعونَ رايتهُ عاليًا بيد، ويحملونَ الأقلامَ بيدٍ أخرى توقعُ على معاهدات التنازلِ عن الأرض والتفاوض على مستقبل الشعب.



لم يكن من الصعب، أن المس من خلال لقاءاتي الكثيرة واختلاطي بأطيافِ المجتمع الذي استطاعَ الانقسامُ الفلسطيني أن يرخي بسدولهِ عليه ويظللهُ بهالة من التشرذم، أنَ روحَ الوطنية بدأت تتآكل شيئا فشيئًا فاختلقت أحلامُ الشبابِ وطموحاتهم، وانتقلَ تشجيعُ الغالبيةِ العظمى من تشجيع للمقاومة إلى تشجيع برشلونة وريال مدريد، من عشق لقصصِ البطولةِ والفداء إلى عشق للكرة والأفلام السينمائية، ليس عيبًا أن تعشقَ الكرة والأفلام، إنما العيبُ بإحلالها محلَ القضية، العيبُ في أن يكتسي مخيمُ جنين بصورِ نجومِ الكرة من بعد أن زُيّن سابقًا بصورِ أبطالِ المقاومةِ والنضال والكفاح.



كفاح .. هو خالُ بيسان الأسير، معتقلٌ لدى الاحتلال، يحبها وتحبه، استطاعَ يومًا أن يقنعها بان اليهود أعداء، هم الذين شردوا أبناءَ شعبنا، قتلوا المئات من الأطفال، حرقوا ألعابهم وهدموا بيوتهم الصغيرة.



سألتها - بعدما  سرحتُ بمخيلتي هنيهة، أخذتني سهوة فكرية خضتُ فيها صراعًا مع العقل والذاكرة، لم تفارقني فيها التساؤلات : هل لهذهِ الطفلة أقران؟، هل هناكَ من يشاركها التفكير ممن هم بمثل عمرها؟ هل أخطأتُ بالحكم؟ هل حمّلتُ الشعبَ ما لم تجنهِ يداه؟ هل هي مسؤوليةُ القادة؟ أم هي مخططاتهم التي نكبت الشعبَ مرتين، فنُكبَ يوم رُحِلَ من ديارهِ ونُكبَ يوم أنسيت قضيتهُ وشوهت خريطةُ دولتهِ فباتت تقتصرُ على غزة والضفة؟ هل أنا على حق؟ من المسئول؟ الألمُ الذي في رأسي هل سببتهُ تلكَ الوعكةِ الصحية؟ أم هو مخاضٌ عسير لصورةٍ جديدة لم تكن في ذهني من قبلُ حاضرة لأطفال يحلمون حقًا بالوطن، بالتراب، بالحق، بالعودة ؟-  سألتها : لماذا اخذَ اليهود خالك ؟

قالت : لا ادري، لكنهم أخذوه ولا بد من أن أعيدهُ قريبًا.



هنا قاطعتني الجدة تقول : هي لا تمزح، لا همَ لها سوى إعادةِ خالها الأسير إلى المنزل، صباحَ اليومِ استيقظتْ قبلَ الجميع، وجدتها تبحثُ عن مفتاحِ السجنِ لإطلاقِ سراحِ خالها، كانت تريدُ أن تراهُ حرًا طليقًا تخبئهُ في غرفتها من اليهود.



نظرتُ إليها بإكبار.... بيسان هل تكرهين اليهود؟ سألتها، فأجابت : بكلِ تأكيد. لماذا؟ لأنهم اخذوا خالي. فقط لأنهم اخذوا خالك؟ قلت، فأجابت : وقصفوا والدي بقنبلة فحرقته، قلت : فقط؟ ... قالت : وسرقوا البحر منّا.

                      

هنا لم اعد أرى سوى اللون الأزرقِ في عينايَ اللتين اغرورقتا بالدموع، فسألتها من بين الدموع، هل تريدينَ العودة إلى البحر، فأجابت : نعم، قلتُ لماذا؟ لكي العبَ على الشاطئِ وارقُبَ الأمواج، أجابت بيسان.



لم اعد احتملُ توجيهَ المزيدِ من الأسئلةِ لطفلةٍ حالمة، فبادرتها بسؤالٍ أخير، قلت في نفسي هو الأخيرُ حقًا فالنفسُ لم تعد تطيق، والعيون جفت مآقيها، قلتُ : كيفَ نعيدُ البحرَ يا بيسان، فأجابت : بالسلاح.



بالسلاح... قالتها بيسان، فخطفتني وكأني جالسٌ أمام الياسين أو سعدات أو هو الشقاقي، وكأني لم اسمع بمثلِ هذهِ التصريحات الخطيرة في الضفة الغربية منذ زمن ... فأبا علي لساني إلا أن ينشدَ بيتين للشاعر عبد الله العشماوي الذي يقول على لسانِ طفل (أنا يا أبي طفل و لكن همتي*** فجر به يحلو لي استشهاد ... لا تخش يا أبتي علي فربما **** قامت على عزم الصغير بلاد)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق


Best Blogger Tips